القلب النازف

المشاهدات الفعلية للخبر 👁 Flag Counter



  

بقلم الكاتبة/ نجوي رضوان 



​مُذ أبصرتُ عيناك، استحال قلبي موقدًا من لظى، لا تخبو ناره ولا يهدأ أجيجه. كنتَ تمرُّ كطيفٍ عابرٍ أمام نوافذ روحي، فتشرع الريحُ أبوابي المستعصية على عاصفةٍ هوجاء، لا تُبقي مني في نهاية المطاف إلا حفنة من رمادٍ تذروه الذكريات، رمادٍ لا هوية له ولا انتماء إلا التشبث بحروف اسمك. لقد كنتَ الحب الذي توهمتُه مرفأً للخلاص، وشاطئًا للأمان، فإذ بي أكتشفُ أنك أكثر الطرق وعورةً، وأشد الدروب تيهًا؛ طريقٌ سرمدي لا ألمحُ له نهاية تريحني، ولا أملكُ قوةً للارتداد نحو بداياته الضائعة. كانت كل خطوةٍ أخطوها نحوك بمثابة فجرٍ وليدٍ يبعث فيَّ الأمل، وكل ابتعادٍ قسري عنك كان ليلًا سرمديًا ينهشُ أطرافي بضراوةٍ، كما ينهش الجوعُ الضاري جسد طريدةٍ أعياها الفرار.

​يا من استوطنتَ الوجدان حتى استويتَ في صدري حياةً وموتًا، وترياقًا وسُمًّا.. إنني أحبك بفيضٍ يضاهي حبَّ الجريحة لسكينها؛ تدنو منه بوجلٍ وهي تدرك يقيناً أنه النصل الذي سيُجهز عليها، لكنها تنجذب إليه بجاذبية الموت التي لا تُقاوم. أحبك كغريقٍ يتشبثُ بموجته الأخيرة، تلك التي تمنحه شهقة الحياة الزائفة قبل أن تغدر به وتُسلمه لغياهب العمق. لقد كنتَ لي وطناً مشيداً من ضوءٍ واهنٍ، أضاء لي مسالك الهاوية، وتركتَ في تجاويف صدري فضاءً موحشاً لا يسكنه إلا صدى صوتك.. ذلك الصوت الذي إن غاب، تحول صدري إلى بيداء قاحلة، جفَّ ماؤها وذبل شجرها، وغدتْ صحراءَ موحشة حتى من رمالها.

​يا لله.. أيُّ لغزٍ أنت؟ وكيف اجتمع في كينونتك البشرية كلُّ هذا النور الذي يُحيي، وكلُّ هذا الوجع الذي يُميت؟ كيف استطعتَ ببراعةِ صيادٍ أن تجعل قلبي معلقاً بين كفيك؛ فلا أنتَ تُحكم قبضتك عليه لترتوي به، ولا أنتَ تُطلقه في فضاء الله ليتحرر، بل أبقيتَه كعصفورٍ مبللٍ بالخوف، يرتجفُ في قبضة الانتظار ليغرد بأشجى ألحانه وأشدها وجعاً؟

​إني أقفُ اليوم على حافة الانهيار، لا أدري أيُّنا يمزقُ الآخر الآن؟ هل أنا التي أمزقُ نفسي بانتظاري العقيم الذي يقتاتُ على أيامي، أم أنتَ الذي تمزقني بصمتك الجنائزي الذي يشبه صمت القبور؟ كل ما أدركه في غمرة هذا التيه، أن روحي في غيابك تنبتُ شقوقاً وندوباً، وأن كلَّ صدعٍ ينفلقُ في أعماقي ينطقُ باسمك بخشوعٍ قبل أن يئنَّ من فرط الألم. أشتاق إليك شوقاً يخترقُ نياط القلب كما يخترق سهمٌ مسموم صدر فارسٍ مغوارٍ لم يعرف التراجع قط، لكنه يسقط اليوم لأول مرة، مذهولاً، دون أن يستوعب كيف انتهت معركته الأخيرة بهزيمةٍ نكراء أمام عينيك.

​ولولا أن في كيمياء الحب حزناً نبيلاً يليق بك وبعظمة ما أشعره، لما كنتُ أرقتُ مآقيَّ بالبكاء. ولولا أن في عتمة الألم يرتسم ظلك الوارف، لما وجدتُ في نفسي جلداً على احتماله. فيا رجلاً صهر كياني وصنع مني امرأة مشقوقة الفؤاد، اعلم يقيناً أن كل خليةٍ فيَّ تهتف باسمك، حتى جراحي الغائرة، وحتى انكساراتي المتتالية، وصمتي الطويل الذي فقد القدرة على محاورة الآخرين ولم يعد يعرفُ سواك بوصلةً وعنواناً.

​وإن سألوك يوماً عن تلك التي وهبتك عمرها، فقل لهم بملء فيك:

كانت تحبني حتى تكسرت أجنحتها، فتكسرتُ أنا في مرايا وجعها.

كانت تراني بوابة السماء المفتوحة على الخلود، فسقطت في هاوية الفقد.

كانت تكتبني بمداد دمها النازف، ففنيتْ وهي ترسم حروفي، وماتت قرب محبرة عشقها.

​قل لهم.. ولا تتردد:

إن في ركنٍ منسيٍّ من هذا الوجود، لا يزال هناك قلبٌ ينزف عشقاً أبدياً، عشقاً لا يطاله الهرم، ولا ينال منه الزمان.

اضف تعليق

أحدث أقدم