سلسله رسوخ العلاقات السودانيه المصريه عبر التاريخ

المشاهدات الفعلية للخبر 👁 Flag Counter








 

كتب / محمد الفاتح 


الجزء الرابع 

إن نجيب الذي كتب سنة 1943م كتابا عن السودان سماه "رسالة عن السودان" كان تجسيدا حقيقيا لرؤية هذا الرجل للسودان وثقافته وشعبه وتراثه وأرضه واعتباره جزءا لا يتجزء من مصر، كان محمد نجيب صادقا في مسعاه، وقد أدرك السودانيون حقيقة هذه المشاعر جيدا فلبوا نداءه حين دعاهم للقاهرة للوحدة، ولبوا نداءه أيضا حين زار السودان في أوائل سنة 1954م على الرغم من المؤامرة البريطانية التي راح ضحيتها العشرات في استقباله.

ولذلك حين حاول جمال عبد الناصر فيما بعد إعادة العلاقات وكانت قد تدهورت بسبب عزل نجيب وبسبب السياسة الفاشلة التي اتبعها صلاح سالم مع السودانيين بالسب والرشوة والاحتقار، فقد سأل عبد الناصر السودانيين عن سبب التعنت وكأنه لم يكن يعرف، فأجابوه: "نجيب! ولما قال لهم جمال عبد الناصر: إن نجيب فرد، والفرد زائل، والعلاقة المتينة بين البلدين خالدة، كرروا: نجيب، وفقد عبد الناصر أعصابه وقال: ليس معقولا أن نضع فردا في كفّة وعلاقة بين شعبين في كفة أخرى. قالوا له: إننا جعلنا من نجيب رمزا لوحدة الوادي شماله وجنوبه وأنتم حطمتم هذا الرمز" .


حتى لحظة عزل نجيب لم يقبل أن يعلن الاستقالة بسبب السودان، يقول: "عندما دخل عبد الحكيم عامر وحسن إبراهيم ليُبلغاني يوم 14 نوفمبر/تشرين الثاني 1954م بقرار إعفائي من رئاسة الجمهورية قلت لهما في وضوح: بصراحة أنا لن أستقيل. فسأل عبد الحكيم عامر: لماذا؟ قلتُ: حتى لا يُنسب إليّ يوما أنني كنت السبب في انفصال مصر عن السودان، وفي الحقيقة أنا تحمّلت كل ما جرى لي بعد تمكّن عبد الناصر من السلطة بعد أزمة مارس/آذار 54 حتى لا تؤثّر استقالتي على نتيجة الاستفتاء حول الوحدة مع مصر في السودان، خاصة أن الحزب الوطني الاتحادي الذي كان يؤيد الاتحاد والوحدة مع مصر قد فاز في الانتخابات، لكن عبد الناصر ورجاله في مجلس الثورة لم يكن يشغلهم في ذلك الوقت موضوع السودان، كان كل ما يهمهم هو كيف يمكن إزاحتي والتخلّص مني" .


لم يكن نجيب مبالغا حين قال: "إن استقالتي كانت تعني انفصال السودان عن مصر"، فقد هبت صحف السودان وسياسيّوها مؤيدهم ومعارضهم في وجه الموقف المخزي لعزل نجيب، وإلقائه في الإقامة الجبرية بصورة مهينة، وراحت الصحف السودانية تصف كلا من صلاح سالم ومجلس قيادة الثورة بأنهم "فاشيون"، بل قالوا: "نفرض أن وحدة تمّت بشكل ما بين وادي النيل، فما الضمانات التي تكون لدى زعمائنا وأي فرص لهم مع هؤلاء المتنمرين المتعطشين للسلطة".

ليست شهادة نجيب في حق نفسه هي الإنصاف التاريخي لنفسه، وإنما أكد اللواء جمال حماد أحد الضباط الأحرار هذه الحقيقة في شهادته على العصر مع أحمد منصور حين ألقى باللائمة على انفصال السودان عن مصر إلى جمال عبد الناصر وصلاح سالم ومجلس قيادة الثورة، فهو يؤكد أن نجيب كان قد نُزعت صلاحياته منذ مارس/آذار 1954م، وأنه كان في قصر عابدين بلا أي قوة، فلماذا عزلوه بهذه الطريقة الفجة في نوفمبر/تشرين الثاني من العام نفسه، لماذا لم ينتظروا حتى تنتهي مسألة الوحدة مع السودان، بل ويؤكد أن السودان كان مسألة فرعية لا تهم عبد الناصر، فقد كانت عينه فقط على إزاحة مراكز القوى من أمامه، نجيب ثم صلاح سالم وأخيه جمال سالم بحجة الفشل في الملفات التي تقلّدوها .

كان صلاح سالم مع تقلده لملف السودان يتولى زمام وزارة الإرشاد القومي، أي وزارة الإعلام في وقتنا هذا، وكانت إستراتيجيته أمام اشمئزاز السودانيين من سياسة عبد الناصر ومجلس قيادة الثورة تقوم على شراء الذمم بالمال، وعلى التهديد والشتم من خلال الإذاعات والإعلام المصري الذي كان يديرهم، وكلتا السياستين ساهمت في تعميق الأزمة، وزادت الشروخ، للدرجة التي اضطر فيها إسماعيل الأزهري الرجل الذي طالما تحمس للوحدة، وجاء به السودانيون رئيسا للوزراء، اضطر ألا يتكلم عن ملف الوحدة من جديد خوفا من أن يشهر به، أو يظن به أنه يُشترى بأموال صلاح سالم.

اضف تعليق

أحدث أقدم