ألوانُ الشفقِ تغرقُ بهدوءٍ، تودِّعُ الشمسُ الأرضَ بسلام.

المشاهدات الفعلية للخبر 👁 Flag Counter



 

​بقلم/ وائل عبد السيد


​قصيدة الغروب السردية الممتدة 

​يا أيها الغروب، يا سر الأفق الذي يرحل، يا موعد الشمس الذي لا يُؤجل، ها أنت ذا تمد وشاحك الذهبي فوق صفحة الكون الأزلي، تخطو خطواتك الأخيرة نحو حافة الغيب المجهول، وتترك خلفك آثاراً من نار وذهب تبرق في عين المتأمل. تبدأ رحلة الوداع، رحلة الألوان الخالدة التي تتشابك، من الأصفر الباهت إلى الأحمر العميق القاني، كنزيف النور الجميل الذي يُعلن عن انكسار اليوم، وبدء سلطان الظل الهامس.

​تنساب خيوط الشمس كـدماء الياقوت على زجاج النوافذ، وتحول الغيوم الركامية إلى جزر عائمة من المرجان المشتعل، تبدو كعرش عظيم يُنصب لسيدة الليل القادمة. هذا المشهد المهيب ليس مجرد نهاية لنهار، بل هو طقسٌ كونيٌ عظيم، حيث تتوقف الحياة لبرهة، لكي تتنفس الصمت الأرجواني. تتراجع الطيور إلى أوكارها، تاركةً خلفها آخر همسة لحن، ويستسلم البحر الهائج لـهدوء مفاجئ، كأنه يخشى إزعاج لحظة التجلي الروحية.

​تتبدل الألوان في السماء بسرعة فائقة، إنها ليست ثابتة، بل هي لحنٌ بصريٌ متغير، يبدأ بالبرتقالي الصارخ، ثم يميل إلى البنفسجي الغامض، فتشعر وكأن الكون كله يتحول إلى لوحة زيتية ضخمة رسمها فنانٌ سماويٌ لا يُضاهى. وفي اللحظة التي يختفي فيها القرص تماماً خلف خط الأفق البعيد، تظهر أولى النجوم الخجولة، كعيونٍ ساهرة تترقب خفوت ضوء الوداع. هذا هو الفاصل السحري بين عالمين، بين صخب الضوء وسكون العتمة، بين الوجود الواضح والسر الكامن.

​يا غروب الأبدية، كم تحمل من عبر! تُذكرنا بأن كل شيء إلى زوال، وأن الجمال الحقيقي يكمن في اللحظات العابرة والهشة. نُحصي فيك ما فات، ونستلهم منك ما سيأتي. هي وقفة تأمل يجبرنا عليها هذا الانسحاب البطئ، حيث تُصبح الأفكار أكثر عمقاً، والروح أكثر شفافية. تتشابك خيوط الماضي والحاضر والمستقبل في ضوء الشفق، فتغدو ذكرياتنا أكثر وضوحاً، وتطلعاتنا أكثر إلحاحاً.

​الغروب ليس حزناً، بل هو سكونٌ مُطَمئن، وعدٌ بأن الراحة قادمة بعد الجهد. هو تكرارٌ يوميٌ لدرس الحياة: دورة لا نهائية من البداية والنهاية، من الشروق والزوال. وكلما غابت الشمس، علمنا يقيناً أنها ستعود، حاملةً معها نوراً جديداً وأملاً متجدداً. فلنستسلم لهذه العتمة الدافئة، ولنترك للأحلام أن تنسج خيوطها في ليلٍ يسوده القمر، الذي بدأ الآن يصعد عرشه الفضي بكل سكينة ووقار. إنه مشهدٌ يتجاوز الوصف البشري، يتطلب صمتاً لا كلمات، وتأملاً لا تفسيراً.

​تتألق بقايا النور كجمرٍ تحت رماد السماء، لونٌ بنفسجيٌ يمتزج بالرمادي، ثم ينقشع ليترك المجال للزرقة الليلية العميقة، زرقة مخملية تليق بـالأسرار. وفي هذا الامتداد اللوني الهائل، نرى كيف يتلاشى التضاد، وكيف تتعانق المتناقضات. إنها لوحة متعددة الطبقات، تعكس عمق التجربة الإنسانية، من أقصى الفرح إلى أقصى الحنين. لا تزال هناك شظايا من الذهب معلقة على حواف الغيوم، كأنها رفض عنيد للاستسلام التام للظلام، ولكن الظلام حتميٌ وجميل.

​يغدو الهواء أكثر برودةً وشفافية، وتحمل نسمات المساء روائح الأرض المروية وسكون الأعشاب النائمة. ينسحب النهار بهدوء، كضيف كريم أنهى زيارته الطويلة. يا غروبنا الأبدي، أيقونة الزمن والجمال، ستبقى لوحتك منقوشة في قلوبنا، تُعلمنا أن لكل نورٍ أجل، وأن أجمل الألوان هي تلك التي تظهر في لحظات الفناء. هذا التدرج البطيء نحو العتمة هو أعظم قصيدة صامتة تُعزف كل مساء، تنتظر آذاناً صاغية وقلوباً مُحبة لتستوعب المغزى العميق لهذا المشهد الباهر.

اضف تعليق

أحدث أقدم