قلم/وائل عبد السيد
كان هناك رجل مسن يُدعى "عم منصور". قضى منصور ثلاثين عاماً يعمل حارساً لمحطة قطار قديمة، توقفت القطارات عن المرور بها منذ زمن طويل، لكنه كان يأتي كل صباح، يرتدي بزته الرسمية، ويجلس على المقعد الخشبي المتهالك.
لغز الانتظار
سأله شاب من القرية يوماً: "يا عم منصور، المحطة مهجورة، والقطارات غيّرت مسارها منذ أعوام، فلماذا تجلس هنا كل يوم؟"
ابتسم منصور وهو يمسح على ساعة جيبه القديمة وقال: "يا بني، الدنيا كلها محطة انتظار، والاشتياق هو الوقود الذي يبقينا أحياء."
حكى منصور للشاب أنه ينتظر "رسالة". ليست رسالة ورقية في مظروف، بل هو يشتاق لرؤية ابنه الذي سافر خلف البحار بحثاً عن الرزق، ووعده بالعودة في موسم الحصاد.. لكن عشرة مواسم مرت ولم يأتِ.
الاشتياق كفعل حياة
لم يكن اشتياق منصور حزناً سلبياً، بل كان يملأ فراغ غياب ابنه بالاعتناء بالمكان:
كان يزرع الياسمين حول المحطة لأن ابنه كان يحب رائحته.
كان يلمع النحاس في غرفة الانتظار ليكون "بريق العودة" جاهزاً.
كان يحكي للمسافرين الخياليين عن بطولات ابنه، وكأنه يستحضره بكلماته.
في قلب منصور، لم يكن الغياب يعني العدم، بل كان يعني حضوراً أقوى من المسافات. كان يرى ملامح ابنه في وجوه الغرباء، ويسمع صوته في حفيف الشجر.
الحقيقة المرة والحلوة
ذات يوم، سأله الشاب بفضول: "ألا تتعب من هذا الشوق؟ ألا يؤلمك أنك قد لا تراه مجدداً؟"
نظر منصور إلى الأفق البعيد وقال:
"الاشتياق في هذه الدنيا يا بني هو الدليل الوحيد على أننا لم نتحول إلى حجارة. هو الوجع الذي يخبرك أنك أحببت بصدق. نحن نشتاق لأننا تركنا قطعة من روحنا في مكان آخر، أو مع شخص آخر. وهذا الشوق هو ما يجعل للّقاء طعماً، ولو كان في الخيال."
العبرة من القصة
الاشتياق الإنساني في الدنيا هو "بوصلة الروح". نحن نشتاق للراحلين ، و نشتاق لماضينا ، و نشتاق حتى لأنفسنا القديمة. هذا الشعور ليس ضعفاً، بل هو أرقى أنواع الوفاء لما فقدناه أو من ننتظره.
فالدنيا ليست مستقراً أخيراً، بل هي ممر، و الاشتياق هو "الحنين للأصل" الذي يجعل قلوبنا دائماً في حالة حركة وبحث.


إرسال تعليق