كتب ايهاب ثروت
منذ عقود، والقضية الفلسطينية تسكن وجدان كل مصري وعربي حر. لم تكن يومًا مجرد شعار عابر أو لحظة حماس وقتية، بل كانت دومًا رمزًا للكرامة والعدالة والنضال. ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن يُزايد أحد على موقف الشعب المصري التاريخي والراسخ من دعم الحق الفلسطيني في وجه الاحتلال الغاشم.
وفي ظل ما تمر به غزة من عدوان همجي وحصار خانق، لا صوت يعلو فوق صوت نصرة المظلومين، ولا موقف إلا مع كسر الحصار ورفع الظلم عنها بكافة الوسائل الممكنة: دبلوماسية، إنسانية، قانونية، وحتى إن اقتضى الأمر وسائل أكثر حسمًا.
لكن في وسط هذا الزخم العاطفي الصادق، ظهرت دعوة مثيرة للدهشة – بل والقلق – تتداولها بعض الصفحات والمقاطع عبر مواقع التواصل، تطالب المواطنين بملء زجاجات مياه فارغة حتى نصفها بالقمح أو العدس أو الفول أو الأرز، وإلقائها في البحر من سواحل مصر، على أمل أن تصل إلى غزة عبر المياه!
ظاهريًا، قد يبدو الأمر نابعًا من تعاطف.
لكن عمليًا، هو دعوة غير عقلانية، بل وخطيرة من منظور الأمن القومي.
فلننظر إلى الحقائق ببساطة:
أولاً، من الناحية الجغرافية والبيئية، فإن اتجاه الرياح السائد في البحر المتوسط على السواحل المصرية خلال هذا الوقت من العام، هو شمالي غربي إلى شمالي، أي أن الرياح تتحرك من أوروبا باتجاه سواحلنا أو باتجاه الغرب (نحو ليبيا وقبرص واليونان)، وليس في اتجاه الشرق نحو فلسطين. بمعنى آخر، لا توجد أي فرصة فيزيائية أو ملاحية لوصول هذه الزجاجات إلى غزة.
أما من حيث حركة المياه، فإن الأمواج في هذه المناطق غالبًا ما تسحب الأجسام للداخل، أو تتيه بها في عرض البحر. وبالتالي، فإن زجاجات المياه تلك – بما تحمله من قمح وبقوليات – لن تصل إلى غزة، بل إلى قاع البحر أو إلى شواطئ أخرى لا علاقة لها بالقضية.
ثانيًا، وعلى قدر ما تبدو الفكرة عبثية، إلا أنها تحمل في طياتها خطرًا أكبر يتمثل في استنزاف المخزون الاستراتيجي لمصر من الحبوب والبقوليات. ونحن في دولة تسعى – مثل أغلب دول العالم – للحفاظ على أمنها الغذائي في ظل ظروف اقتصادية دولية مضطربة. دعوات مثل هذه، إن استجابت لها أعداد كبيرة من الناس بدافع الحماس أو العاطفة، قد تمثل ضربة موجعة لمخزون وطني لا غنى عنه.
والأخطر، أن مثل هذه الدعوات قد تُستخدم كوسيلة لتوريط الناس نفسيًا وعاطفيًا، بينما يتم توجيه أصابع الاتهام للدولة بالتقصير، وتُغفل الحقائق، ويتحول الدعم الحقيقي لغزة إلى حالة من التهييج الفوضوي والاستنزاف غير الواعي.
نحن لا نعارض دعم غزة، بل نؤمن بأنه واجب وطني وقومي وديني وأخلاقي، لكننا نرفض بشدة أن يتحول هذا الدعم إلى أداة لتغييب العقول، أو ذريعة لتفريغ مخازن القمح والزيت والفول في عرض البحر.
الدعم لغزة يجب أن يتم عبر القنوات الرسمية والمضمونة، سواء عبر الهلال الأحمر، أو منظمات معتمدة، أو عبر الضغط الشعبي والإعلامي والدبلوماسي لكسر الحصار الظالم. لا عبر فيديوهات "استعراضية" على السوشيال ميديا تثير العاطفة وتُخدّر الوعي.
باختصار، ليس كل من يرفع شعار فلسطين يناصرها حقًا.
وبالتأكيد، ليس من يرمي الحبوب في البحر بطلًا قوميًّا.
بل ربما، دون أن يدري، يخدم أهدافًا معادية للأمن القومي المصري والفلسطيني في آن واحد.
غزة تحتاج إلى دعم حقيقي... لا إلى مشاهد درامية في البحر.
وغزة لا تستحق منا إلا أن نكون في صفها، بكل ما نملك من وعي وعقل وشرف.
إرسال تعليق